فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقوله: {أنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} إدماج للدعوة إلى الحق في خلال الجواب حرصًا على الهدْي.
وكذلك التفريع بقوله: {فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ} فإنه إتمام لذلك الإِدماج بتفريع فائدته عليه لأن إثبات أن الله إله واحد إنما يقصد منه إفراده بالعبادة ونبذُ الشرك.
هذا هو الوجه في توجيه ارتباط {قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ} بقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ} [فصلت: 5] الخ.
وموقع {أنَّمَا إلهكم إله واحِدٌ} أنه نائب فاعل {يوحى إلَيَّ}، أيْ يوحَى إِليَّ معنى المصدر المنسبك من {أنَّمَا إلهكم إله واحِدٌ} وهو حصر صفة الله تعالى في أنه واحد، أي دون شريك.
ومماثلته لهم: المماثلة في البشرية فتفيد تأكيدَ كونه بشرًا.
والاستقامة: كون الشيء قويمًا، أي غير ذي عوج وتطلق مجازًا على كون الشيء حقًا خالصًا ليست فيه شائبة تمويه ولا باطل.
وعلى كون الشخص صادقًا في معاملته أو عهده غير خالط به شيئًا من الحيلة أو الخيانة، فيقال: فلان رجل مستقيم، أي صادق الخُلُق، وإن أريد صدقه مع غيره يقال: استقام له، أي استقام لأجله، أي لأجل معاملته منه.
ومنه قوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7] والاستقامة هنا بهذا المعنى، وإنما عُدّي بحرف إلى لأنها كثيرًا ما تعاقب اللام، يقال: ذهبتُ له وذهبت إليه، والأحسن أن إيثار إلى هنا لتضمين استقيموا معنى: توجهوا، لأن التوحيد توجه، أي صرف الوجه إلى الله دون غيره، كما حكَى عن إبراهيم: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين} [الأنعام: 79]، أو ضمّن استقيموا معنى: أنيبوا، أي توبوا من الشرك كما دل عليه عطف {واستغفروه}.
والاستغفار: طلب العفو عما فرط من ذنب أو عصيان وهو مشتق من الغَفْر وهو الستر.
والمعنى: فأخلصوا إلى الله في عبادته ولا تشركوا به غيره واسألوا منه الصفح عما فرط منكم من الشرك والعناد.
{واستغفروه وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} وعيد للمشركين بسوء الحال والشقاء في الآخرة يجوز أن يكون من جملة القول الذي أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله فهو معطوف على جملة {إنَمَّا أنَا بَشَرٌ}.
ويجوز أن يكون كلامًا معترضًا من جانب الله تعالى فتكون الواو اعتراضية بين جملة {قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ} وجملة {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ} [فصلت: 9] أي أجبهم بقولك: أنا بشر مثلك يوحى إليّ ونحن أعتدنا لهم الويل والشقاء إن لم يقبلوا ما تدعوهم إليه، فيكون هذا إخبارًا من الله تعالى.
وذكر المشركين إظهار في مقام الإِضمار ويستفاد تعليق الوعيد على استمرارهم على الكفر من الإِخبار عن الويل بكونه ثابتًا للمشركين والموصوفين بالذين لا يؤتون الزكاة وبأنهم كافرون بالبعث لأن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعليَّة ما منه الاشتقاق، ولأن الموصول يؤذن بالإِيماء إلى وجه بناء الخبر.
فأما كون الشرك وإنكارِ البعث موجِبَيْن للويل فظاهر، وأما كون عدم إيتاء الزكاة موجبًا للويل فذلك لأنه حَمَّل عليهم ما قارن الإشراك وإنكار البعث من عدم الانتفاع بالأعمال التي جاء بها الإسلام، فذِكرُ ذلك هنا لتشويه كفرهم وتفظيع شركهم وكفرانهم بالبعث بأنهما يدعوانهم إلى منع الزكاة، أي إلى القسوة على الفقراء الضعفاء وإلى الشحّ بالمال وكفى بذلك تشويهًا في حكم الأخلاق وحكم العُرف فيهم لأنهم يتعيرون باللؤم، ولكنهم يبذلون المالَ في غير وجهه ويحرمون منه مستحقيه.
ويعلم من هذا أن مانع الزكاة من المسلمين له حظ من الويل الذي استحقه المشركون لمنعهم الزكاة في ضمن شركهم، ولذلك رأى أبو بكر قتال مانعي الزكاة ممن لم يرتدوا عن الإسلام ومنَعوا الزكاة مع المرتدين، ووافقه جميع أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ف {الزكاة} في الآية هي الصدقة لوقوعها مفعول {يؤتون} ولم تكن يومئذٍ زكاة مفروضة في الإسلام غير الصدقة دون تعيين نُصُببٍ ولا أصناففِ الأرزاق المزكّاةِ، وكانت الصدقة مفروضة على الجملة، ولبعض الصدقة ميقات وهي الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة: 12].
وجملة {وهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافرون} إما حال من ضمير {يؤتون} وإما معطوفة على الصلة.
وضمير {هُمْ كافرون} ضمير فصل لا يفيد هنا إلا توكيد الحكم ويشبه أن يكون هنا توكيدًا لفظيًا لا ضميرَ فصل ومثله قوله: {وهم بالآخرة هم كافرون} في سورة يوسف (37)، وقوله: {إنني أنا اللَّه} في سورة طه (14).
وتقديم {بِالآخِرَة} على متعلقه وهو {كافرون} لإِفادة الاهتمام.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)} استئناف بياني نشأ عن الوعيد الذي تُوُعّد به المشركون بعد أن أُمروا بالاستقامة إلى الله واستغفارِه عما فرط منهم، كأنَّ سائلًا يقول: فإن اتعظوا وارتدعوا فماذا يكون جزاؤهم، فأفيد ذلك وهو أنهم حينئذٍ يكونون من زمرة {الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}، وفي هذا تنويه بشأن المؤمنين.
وتقديم {لهم} للاهتمام بهم.
والأجر: الجزاء النافع، عن العمل الصالح، أو هو ما يُعطُوْنه من نعيم الجنة.
والممنون: مفعول من المَنّ، وهو ذِكر النعمة للمنعَم عليه بها، والتقدير غير ممنون به عليهم، وذلك كناية عن كونهم أُعطُوه شكرًا لهم على ما أسلفوه من عمل صالح فإن الله غفور شكور، يعني: أن الإِنعام عليهم في الجنة ترافقه الكرامة والثناء فلا يُحسون بخجل العطاء، وهو من قبيل قوله: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264]، فأجرهم بمنزلة الشيء المملوك لهم الذي لم يعطه إياهم أحد وذلك تفضل من الله، وقريب منه قول لبيد:
غُضْفٌ كواسبُ لا يُمَنُّ طعامها

أي تأخذ طعامها بأنفسها فلا منّة لأحد عليها. اهـ.

.تفسير الآيات (9- 12):

قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه سفههم في كفرهم بالآخرة، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها وعلى كل ما يريد بخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له، فقال منكرًا عليهم ومقررًا بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق: {قل} أي لمن أنكر الآخرة منكرًا عليه بقولك: {أئنكم} وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر {لتكفرون} أي توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة {بالذي خلق الأرض} أي على سعتها وعظمتها من العدم {في يومين} فتنكرون قدرته على إعادة ما خلقه منها ابتداء مع اعترافكم بأنه ابتدأ خلقها وخلق ذلك منها، وهذا اليومان الأحد والاثنين- نقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنه ما وعبدالله بن سلام رضي الله عنه- قال ابن الجوزي: والأكثرين، وحديث مسلم الذي تقدم في سورة البقرة «خلق الله التربة يوم السبت» يخالف هذا، فإن البداءة فيه بيوم السبت وهو مصرح بأن خلق الأرض وما فيها في ستة أيام كما هو ظاهر هذه الآية، ويجاب بأن المراد بالخلق فيه إخراج أقواتها بالفعل، والمراد هنا تهيئتها لقبول ذلك، ويشكل أيضًا بأن الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك، وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل، فالظاهر أن المراد باليوم ما قاله الحرالي: مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر أو مقدار يومين تعرفونها من أيام الدنيا.
ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره، عطف على {تكفرون} قوله: {وتجعلون} أي مع هذا الكفر {له أندادًا} مما خلقه، فتثبتون له أفعالًا وأقوالًا مع أنكم لم تروا شيئًا من ذلك، فأنكرتم ما تعملون مثله وأكبر منه، وأثبتّم ما لم تعملوه أصلًا، هذا هو الضلال المبين.
ولما بكتهم على قبيح معتقدهم، عظم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال: {ذلك} أي الإله العظيم {رب العالمين} أي موجدهم ومربيهم، وذلك يدل قطعًا على جميع ما له من صفات الكمال.
ولما ذكر ما هم به مقرون من إبداعها، أتبعه ما جعل فيها من الغرائب، فقال عاطفًا على ما تقديره: أبدع الأرض على ما ذكر: وجعل ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بأجنبي {فيها رواسي} هي أشدها وهي الجبال، ونبه على أنها مخالفة للرواسي في كونها تحت ما يراد إرساؤه فقال: {من فوقها} فمنعتها من الميد، فعل ذلك لكونه أدل على القدرة، فإنها لو كانت من تحت لظن أنها، أساطين حاملة، ولتظهر منافع الجبال بها أنفسها وبما فيها، ويشاهد أنها أثقال مفتقرة إلى حامل.
ولما هيأها لما يراد منها، ذكر ما أودعها فقال: {وبارك فيها} أي جعلها قابلة ميسرة للسير إليه والإقبال عليه، ودالة على جميع صفاته الحسنى وأسمائه العلى وغير ذلك من المعارف والقدر والقوى {وقدر فيها أقواتها} أي جعلها مع البركة على مقدار لا تتعداه، منهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه، وقدره فأمضاه، ومن ذلك أنه خص بعض البلاد بشيء لا يوجد في غيرها لتنظيم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان جميع ما تقدم من إيداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها، دفعة واحدة لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلًا، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته، ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها فقال: {في أربعة أيام} وهذا العدد عن ضم اليومين الماضيين إلى يومي الأقوات وهما الثلاثاء والأربعاء، أو يكون المعنى في تتمته أربعة أيام، ولا يحمل على الظاهر ليكون ستة لأنه سيأتي للسماوات يومان فكانت تكون ثمانية، فتعارض آية {ألم السجدة لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} وفصل مقدار ما خلقها فيه ومقدار ما خص الأقوات والمنافع لأحاطة العلم بأنه يخص كل أمر من الأمرين يومان، ونص على الأولين ليكون ذلك أدل على القدرة فيحسن موقع النعي عليهم بما فصل به الآيتين من اتخاذ الأنداد، وإنما كان أدل على القدرة، لأنه إيجاد ذوات محسوسة من العدم قائمة بأنفسها بخلاف البركة، وتقدير الأقوات فإنه أملا لا يقوم بنفسه، فلم يفرد يوميه بالذكر، بل جعلهما تابعين كما أن ما قدر فيهما تابع، ولم يفعل ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه، لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختيار، ليضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا، فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة السماء مع كونها أصغر من السماء دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين، فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها، والاعتناء بشأنهم وشأنها، وزادت أيضًا بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم- كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور، وليعلم أيضًا بخلق السماء التي هي أكبر جرمًا وأتقن جسمًا وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح، بل لحكم تعجز عن حملها العقول، ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت تنبيهًا على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليمًا للتأني وتدريبًا على السكينة والبعد من العجلة.
ولما كان لفظ {سواء} الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو {إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} قال تعالى مزيلًا لما أوهمه قوله: {أربعة أيام} من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة، ناصبًا على المصدر: {سواء} أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء {للسائلين} أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها، لابد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص، وقراءة يعقوب بجر {سواء} معينة لأن تكون نعتًا ل {أربعة} وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة.
قال ابن برجان: ألا ترى الأمر إلى السماء أولًا في إنزال الماء فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم- أمر قويم وحكمة شائعة آية قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة.
الشتاء الربيع الصيف والخريف، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب، قال: وقوله: {السائلين} تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب، وقد يكون معنى السواء زائدًا إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه- انتهى.
ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها بنور أبنيتها واتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي، ولفظ الاستواء وحب الغاية الدال على عظيم العناية فقال: {ثم استوى} أي قصد قصدًا هو القصد منتهيًا قصده {إلى السماء وهي} أي والحال أنها {دخان} بعد ما فتقها من الأرض، قالوا: كان ذلك الدخان بخار الماء فهو مستعار من المرتفع من النار، وهو تشبيه صوري، فالسماء متقدمة في الدخانية على الأرض، تقدم الذكر على الأنثى ثم خلقت ذات الرض وبعد تصوير السماء أولًا إيجادًا وتتميمًا لتسوية السماء بعد أن كانت دخانًا، ويومان لتتميم المنافع فتداخلت الأعداد لتداخل الأفعال، {فقال لها} أي عقب مقارنتين لما قدرته فيكما وأردته منكما من إخراج المنافع من المياه والنبات والمعادن وغيرها، ووضع المصدر موضع الحال مبالغة فقال: {طوعًا أو كرهًا} أي طائعين أو كارهتين في إخراج ما أودعتكما من الأمانة في أوقاتها وعلى ما ينبغي من مقاديرها وهيآتها طوع تسخير لا تكليف {قالتا أتينا} أي نحن وما فينا ما بيننا.
ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم، قال جامعًا لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل: {طائعين} أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئًا بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل، وذلك هو بذلهما للأمانة، وعدم حملها، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقبًا {فقضاهن} أي خلقهن وصنعهن حال كونهن معدودات {سبع سماوات} صنعًا نافذًا هو كالقضاء لا تخلف فيه {في يومين} أي الخميس والجمعة إذا حسب مقدار ما يخصهن من التكوين في الستة الأيام التي كان فيها جحميع الخافقين، وما بينهما كان بمقدار ما خص واحدًا من الأرض ومن أقواتها لا يزيد على مدة منهما ولا ينقص، فيكون الذي خصهما ثلث المجموع، قال ابن جرير: وإنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق السماوات والأرض.
يعني فرغ من ذلك وأتمه {وأوحى} أي ألقى بطريق خفي وحكم مبتوت قوي {في كل سماء أمرها} أي الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل، وزمام مبرم لا ينحل.
ولما عم، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا، فقال صارفًا القول إلى مظهر العظمة تنبيهًا على ما في هذه الآية من العظم: {وزينّا} أي بما لنا من العظمة {السماء الدنيا} أي القربى إليكم لأجلكم {بمصابيح} من زواهر النجوم، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها، ودل السياق على أن المراد: زينة وحفظناها بها {حفظًا} من الشياطين، فالآية من الاحتباك: حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها.
ولما كان هذا أمرًا باهرًا، نبه على عظمته بقوله صارفًا الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلامًا بأنهما أساس العظمة ومدارها: {ذلك} أي الأمر الرفيع والشأن البديع {تقدير العزيز} الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {العليم} المحيط علمًا بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لاسيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت أمه من الأمم قبلها، وسر خلقه سبحانه العالم في مدة ولم يكن قي لمحة وجعلها ستة لا أقل ولا أكثر أنه لو خلقه في لمحة لكان ذلك شبهة لمن يقول: إنه فاعل بالذات لا بالاختيار، فاقتضى الحال عددًا، ثم اقتضى الحال أن يكون ستة لأنها أول عدد يدل على الكمال لأنها عدد تام كسورها لا تزيد عنها ولا تنقص، فآذن ذلك بأن للفاعل نعوت الكمال وأوصاف التمام والتعال، ولم يخلقه فيما دون ذلك من العدد لأنه ناقص، وخلق الأرض في يومين مكررين باعتبار الذات والمنافع إيذانًا بما يقع فيها من المعصية بالشرك الذي هو تثنية وإفك، ولم يكرر في السماء لأن آياتها أدل على التوحيد ولم يحصل من أهلها ما يدل على الوعيد، وليكون إيجادها في أقل من مدة الأرض- مع أنها أكبر جرمًا وأعجب صنعًا وأتقن جسمًا- أدل على الفعل بالاختيار بعجائب الحكم وغرائب الأسرار الكبار. اهـ.